- إلياس المغتربنائب مؤسس الموقع
- رقم العضوية : 2
الدولة :
عدد المساهمات : 7389
نقاط : 432699
السٌّمعَة : 28
تاريخ التسجيل : 22/12/2012
لبنان: مسيحيو "الأرثوذكسي" إذ ينهون ائتلاف 14 آذار!
تشكل الكيان اللبناني في لحظة انشغال العالم بترتيب التركة العثمانية إثر الحرب العالمية الأولى. أتاح مبضع مارك سايكس البريطاني وفرانسوا جورج بيكو الفرنسي "1916" رسم كيان "استقل 1943" رضي به المسيحيون ولم يستسغه المسلمون. ووفق تلك المعادلة، تنازع سكان البلد المستحدث أمر العيش، فتناكفوا وتقاتلوا وتصالحوا وتساكنوا، فأخرجوا من مخاضهم نظام سياسة وطريقةَ عيش يذهبُ الغلاة إلى وصفها بمهنة اسمها "اللبناني".
برعَ المسيحيون في رفع شأن الكيان الجديد وراحوا يستوحون شرعيته من غابر التاريخ من جنس الفينيقيين وما نفخت به كتب الأديان عن لبنان وشجر الأرز ومسالك الأنبياء.
أراد المسيحيون للبنانهم أن يكون قلعة تحمي حضورهم وتقي مستقبلَهم شرّ عثمانية انقرضت ومزاج أغلبية تسكنها أطماع الغلبة. ومن عقيدة الخوف قاد مسيحيو لبنان وجهتهم نحو غرب يحصنهم من محيط لا يؤْمن جانبه. ووفق عقيدة الخوف تحرى المسيحيون سبل الحماية، فاستظلوا بما توفر في المنطقة سواء كان إسرائيليا أو سوريا أو، في آخر التقليعات، إيرانيا.
راهن المسيحيون على امتيازات الخوف لكي يحافظوا في لبنان على امتيازات الحكم. بعد الحرب الأهلية، بعد "الطائف" "1989"، سقط الرهان واندثرت الامتيازات التي حكموا بها الكيان منذ ولادته. انكفأ المسيحيون ينحبون التهميش أو التحقوا بالقافلة يتسوّلون الولاء لحكم الوصاية الدمشقي. تمزق النسيج السياسي المسيحي وانحرف نحو خيارات غريبة عن بنيانه.
في عهد الوصاية السوري أعاد المسيحيون ترتيب مقاومتهم تحت سقف البطريركية المارونية بقيادة البطريرك نصر الله صفير. حافظوا على تعدديتهم ضمن إطار الطائفة ما بين تيار قواتي ينتظر خروج القائد من سجن نظام الوصاية، وتيار عوني ينتظرُ عودة الزعيم من منفى فرضته سلطات الوصاية، وبين البينين شخصيات وقوى وتيارات ناكفت واصطدمت مع شروط تلك الوصاية.
هي هذه الوصاية نفسها التي تقف وراء تقارب السُنة والمسيحيين في تفهم شروط الكيان اللبناني. اقترب السُنة من لبنان المسيحيين في وقتِ تجمعِ الشيعة في مواقع الاستقطاب السوري – الإيراني المضاد. انفتح زعيم السُنة بعد "الطائف" رفيق الحريري على المسيحيين. كسر محرّم التواصل في الشكل والمضمون، ورفد معارضتهم في السرّ والعلن. ثم حين اغتيل "2005" تقدم السُنة في مفهوم لبنان المسيحي فدافعوا عن لبنانهم ورفعوا شعار "لبنان أولاً" على نحو لم ينجح المسيحيون أنفسهم في إرسائه سابقاً.
صار خطاب "القوات" مسموعا لدى السُنة. تصاعدت شعبية سمير جعجع لديهم. حتى أن رمادية تيار المستقبل في مواقف عدة، دفعت بهم للاستكانة إلى خطاب سمير جعجع كونه الأكثر جُرأة في التعبير عن دواخلهم الحقيقية.
نسي السُنة تاريخ القوات وتاريخ سمير جعجع، رغم تناقض ذلك التاريخ مع تأريخهم للحرب الأهلية. أعادوا الاعتبار لرجل وجماعة وطائفة لطالما مثلوا في السابق نقيض ما يرومون ويطمحون لوطنهم. تأملوا بقرفٍ جنوح المسيحية العونية نحو ما عهدوه ومقتوه من عروبة الديكتاتوريات وممانعة نظام الولي الفقيه. كل شيء كان يجمع السُنة ومسيحيي 14 آذار. تقريبا كل شيء!
مثّل الحدث السوري الراهن منعطفا خطيرا في علاقة المسلمين والمسيحيين في ائتلاف 14 آذار. أساس التحالف هو العداء للنظام السوري. أما وأن النظام السوري آيل إلى انهيار، فما أساس التحالف بعد ذلك؟
تنطلقُ فرضية مزعومة من أن انهيار نظام دمشق يعزز من قوة السُنة في لبنان، وهو ما يقلق بقية الطوائف، لا سيما الشيعة والمسيحيين. ثم إن صعود الإسلاميين، إخواناً وسلفيين وقاعدة وجهاديين، يقلق الشيعة كما المسيحيين. وعلى أساس القلق المشترك، وعلى قاعدة وحدة المُصاب، تنشطُ المسيحية العونية مستظلّة بالتحالف مع حزب الله في إعادة استحضار عقيدة الخوف التي تتجسد عنصرية ضد "الغريب" تارة، وتمترسا خلف القانون "الأرثوذكسي" للانتخابات تارة أخرى.
لا مفاجأة في الأداء العوني فهذا ديدن تياره ومصدر عيشه ينهله من أدبيات اليمين المسيحي التي راجت قبل الحرب الأهلية، ويراكم تفاصيله وفق نظرية حلف الأقليات في المنطقة. لكن المفاجأة أتت من مسيحيين في 14 آذار!
في حالات الخوف، تنكفئ الكيانات ُعلى نفسها، تتكتلُ ببدائية بيولوجية، وتقطعُ جسورَها مع كيانات التعايشِ الأخرى. هكذا تراجعَ بعض مسيحيي 14 آذار عن لبنان المتداخل المتواصل المنفتح، وعادوا ينحشرون في عتمة أديرة وكنائس يمثّلها قانون اللقاء الأرثوذكسي. استُدرج المسيحيون الآذاريون نحو المستنقع العوني. استرجعت أعمدة المارونية السياسية القديمة "الكتائب والقوات" ذكريات زمن قديم وراحت تنفخُ في نواميس عتيقة. فأن تنتخبَ كل طائفةٍ نوابها يعني بالمحصلة ألا ينتخبَ المسلمون نواباً مسيحيين وألا ينتخبَ المسيحيون نواباً مسلمين.
يُبلِغ المسيحيون بقيةَ اللبنانيين رسالةَ استقالتهم من دور حضاري لطالما تجاوزَ حدود البلد في السياسة والثقافة والاقتصاد. ينزلق المسيحيون نحو خيارات يستغنون فيها عن شريكهم المسلم في اختيار نوابهم في البرلمان، ويتعففون عن المشاركة في اختيار المسلمين نوابا للبنان. تُفصحُ تلك الخيارات عن اهتمام المسيحيين بالمسيحية في لبنان منطقا ومناطق وإغفالهم لكل ما هو غير مسيحي منطقا ومناطق.
يخبرنا أهل "الأرثوذكسي" أن لبنان ميدانٌ تتقاسمه عائلات قد تتآلف للعيش في البلد الواحد، ولكنها لا شك ذاهبة إلى صدام كما تتصادم دائما عائلات المافيا في تقاسم غنائم السوق والتنازع عليه.
يُبلغنا المسيحيون أن مصلحَتهم هي في "الانعزال" عن المسلمين وفي تعميق الشرخ إلى المجهول. ومن يرضى بإقامة الحواجز بين الطوائف يروّجُ حكما لاستقلال تلك الطوائف داخل كيانات تستلهم توزع المسلمين والصرب والكروات في يوغسلافيا السابقة إلى كيانات. في هذا المنطق ما يشي بأن على المسلمين حماية المسلمين وعلى المسيحيين حماية المسيحيين. ثم إننا لا نفهم كيف أن اختيار المسيحيين نواب المسيحيين يحمي المسيحيين من المسلمين!
في لحظة سوريالية من تاريخ لبنان، قرر السُنة أن يتخلوا عن جنونهم الأغلبي وعن أوهامهم العروبية، وأن يرتضوا بلبنان بيتا وكيانا ووطنا "نهائيا"، مستسلمين لمنطق المسيحيين الذي حكم البلد منذ الاستقلال وحتى نهاية الحرب الأهلية.
وفي لحظة سوريالية صفراء، يديرُ المسيحيون ظهرهم لشركائهم المسلمين المتقدمين إليهم المتيمين بمنطقهم. يُغلقون أبواب القلعة، يحفرون خنادق قانونية تُبعدهم عمن ليس مثلهم، ويرسمون من حيث لا يدرون، أو ربما يدرون، خرائط الحرب الأهلية المقبلة.
المسيحيون يخشون إعادة تموضع القوى في المنطقة. وفي الخشية ارتباك يشبه ارتباكهم بالأرثوذكسي. فإذا صحّت التحليلات التي تتحدث عن الزمن السُني القادم، فأية حكمة من استعداء ما هو قادم. وإذا صحّت الآمال التي تستشرف استقلالاً للبنانيي لبنان مع زوال الوصي في دمشق، فأية عبقرية في تدمير فكرة الوطن التي شارفنا على إدراكها، لبناء فكرة المخيم حيث تنتشر خيم الطوائف. والخوف أن يأنسَ مسلمون لمنطق الأنانية والذاتية التي ينضح به "الأرثوذكسي" هذا، فيروجون لطموحات لا تأخذ بالحسبان شروط الشراكة مع المسيحيين.
في لبنان مسيحيون يقاومون منطق الخوف عند المسيحيين. وفي لبنان مسيحيون يرفضون بإصرار القانون الأرثوذكسي للفصل المذهبي "العنصري" بين اللبنانيين. ربما على اللبنانيين، مسلمين ومسيحيين، الذين ما زالوا يؤمنون بأهليه لبنان على حضن مواطنيه أولاً لا طوائفه، أن يستحضروا التموضع الجديد للقوى في المنطقة ويفرضوا منطق العقل والتعقل والحكمة على من يراهق في خوفه ويدفع نحو خيارات متقادمة خارج تقليعات العصر.
السرّ البنيوي للخلطة اللبنانية هو في طبيعة الكيان المتعدد المتنوع. وسرّ الديمقراطية اللبنانية "النادرة" في المحيط العربي هي تماما في هذا التعدد. الطائفية في لبنان التي تُعتبر عيبا، وهذا صحيح، هي، شِئنا أم أبينا، سرّ صلابة الفكرة الديمقراطية في هذا البلد، والتي لم تنسفها حرب أهلية ولم تزيلها وصاية الخارج. وإسقاط العيب الطائفي هو في امتزاج تلك الطوائف من خلال مشاركتها في اختيار نواب كل الطوائف، بحيث يصبح التمثيل الإسلامي الصحيح مرتهن لمزاج المسيحيين والعكس صحيح.
إذا ما سقط القانون "الأرثوذكسي" فسيعود ذلك ليس لصحوة مسيحييه، بل لتخلي الرافد الشيعي عنه "راقب عزف أمل وحزب الله المركّز على أوتار النسبية هذه الأيام!". عندها يخسر مسيحيو 14 آذار تلك "النزوة" ويخسرون في الوقت عينه ائتلاف 14 آذار الذي تفاجأوا به يوماً إنجازاً فوق العادة لم يجرأوا في الماضي على الحلم به.
هناك سوء تمثيل نعم. على اللبنانيين "مجتمعين" أن يصححوا ذلك بما يحفظ للوطن شكل الوطن، لا أن يستوحوا زمن المربعات الأمنية فيمعنوا في رسم المربعات المذهبية. ففي زمن الربيع على علّته، هراء الحلم بخريف ينفث أوباءً!