|
|
- إلياس المغتربنائب مؤسس الموقع
- رقم العضوية : 2
الدولة :
عدد المساهمات : 7389
نقاط : 424819
السٌّمعَة : 28
تاريخ التسجيل : 22/12/2012
إذلال المثقف بعد الثورة
مواقفه
المثقف، بالتوصيف الوظيفي، هو ذلك المبشّر بالحقيقة، ذلك المنصت لنواميس الواقع وإياقاعاته، وهو الساعي إلى تدبّر الحلول واقتراح البديل متى كلّت جهود الآخرين واعتورتها كدمات السلطة، وهو إلى ذلك الأعمق وعيا والأدرى بمصائر مجموعته البشريّة، والأقدر على تعرية مكائد النخب الحاكمة وفضح برامجها الاستحواذية وحشد الجماهير ضدّها. لا يخفى أنه في الوقت الذي بشّرت فيه ثورات الربيع العربي بإطلاق حريات التعبير والإبداع، أنتجت أيضا حكومات تحارب المثقف وتقمع خياله وتسجنه بوصاياها الأيديولوجية، وإذ تفعل ذلك، تظنّ أنه قادر على تثوير الناس عليها وتحريضهم على إخلال نظامها العام الذي تُرسيه وفق مبادئ خادمة لسلطتها الغيبية. وهو أمر يعود إلى طبيعة هذه الأنظمة الجديدة ذات العقليات السياسية والاجتماعية المترسّبة في الماضي من جهة، ويعود من جهة أخرى إلى هشاشة هذه الأنظمة وخوفها من إمكان اندلاع ثورات تهزّ ما تسعى إلى بنائه من عروش. لذلك ليس من الغريب أن يكون المثقفون والصحافيون ومن هم على شاكلتهم أول المستهدفين من قبل أجهزة القمع العربية الحديثة. لكن علينا الاعتراف أن هذا القمع المنطلق من عقلية قديمة ومهترئة، إنما هو يسعى إلى تحقيق عدّة أهداف لم تكن لتطفو على السّطح. ولعلّ القصد من وراء ذلك هو سعي هذه الأنظمة إلى إخراس صوت الثورة وحرمانه من العولمة والانفتاح على منجزات العقل الحضاري الحديث بعيدا عن كلّ دوغمائية. فالمثقف ما بعد الربيع العربي أصبح يعيش الإنهزامية الغارقة في الذل. يثقل عليه وعيه، فتتحوّل ذاكرته إلى جحيم. كيف لكاتب أن يجلس إلى نفسه، ويخلو لذاته ويكتب بضمير مرتاح وهو وسط الخراب والفوضى الاجتماعية، ويتخبط في مناخ من التناقضات الفكرية يشعره بالاقتلاع. أيّ مكيدة هذه؟ وأيّ فاجعة! المثقف الذي يحتاج إلى أن يحيا في البرج العاجي، ويحلّق خياله حرا، لم يعد قادرا على العثور على موطئ قدم معلوم ينشر منه بنات أفكاره، إذ فصلته حكومات الثورات العربية عن وظيفته الحقيقة به وهمشته وأهملته. المثقف لا دور له في زمن الحكومات الإسلاموية الجديدة، فهي مثقّفة بانتمائها التاريخي للسلف، هكذا تسوّق تلك الحكومات لفهمها الثقافي، وإذا قبلت بمثقّف، فلا يكون إلا من طبيعة "الأفلاطونيين" الجدد. إنها حركة إقصاء جديدة. في الزمان الجديد. إنه الجحيم الداخلي للفكر، وقوده الذكريات والاقتلاع. ولكن هل يحس المثقف أمام هذا الواقع بمختلف تناقضاته بما يحدث للعالم من تغيرات؟ هل يشعر بما يحدث له من تحلل، وانزلاق نحو الهاوية؟ إن المثقف الاعتزالي إشكالي في حد ذاته. إنه مجسَّمُ الصمت. يحتاج إلى لغة أخرى لمعرفة ما يجري في تلك المناطق البيضاء. تلك التي تقف في الما بين، في البرزخ بين الهنا والهنالك. منطقة جذَّابة، ساحرة تغري المثقف اليوم، ما دام الهنا لا يحتمل، في سرعة تحوله، في عنفه، في قسوته. وما دام الهنالك مجهول، والخيال متعب، والفكر مدان. ولكن هل هو إنهزام المثقف وحده؟ أبدا، إنّ إنهزام المثقف محيل إلى أن ينهزم المجتمع بل وإلى انهزام العالم الحرّ من حوله، فالمجتمع يظلّ محكم النظام والبناء، يتهاوى فقط عندما يفقد توازنه. أسئلة جديدة تجابه المثقف، هي أسئلة الهوية والمصير في خضمّ واقع يتخبّط في الضبابية والمجهول والأدلجة، واقع غائم المصير، تحوّل إلى أسطورة الأساطير. فالمثقف اليوم يستحق وقفة ومؤازرة من العالم: إنه الكاتب، والمبدع، والمفكر، والدارس، والباحث… فهل آن الأوان لإعادة الاعتبار للمثقف؟ وهل آن الوقت لأن يقوم المثقف بدوره الاجتماعي والحضاري؟ مهما تباين الأمر، يبقى المثقف منتميا إلى مجتمعه وطبقته بلا تردّد، ومدافعا لا يهدأ عن مصالحها وأهدافها، شعاره في ذلك المعرفة والقدرة على تبليغها، بل يظلّ مختلفا عن الآخرين من حيث الصوت الصادح والسبك اللغوي، وتكنيكات السجال والإفحام، هذا المثقف عضوي عضويّ بالمفهوم الغرامشي، ولا يستطيع أحد أن ينزع عنه "عضويته"، فهو مدافع صلب عن الثورة وعن جماهيرها، لكنه أيضا مثقف ثائر يثور حيث تثور قبيلة معانيه، ويروح معها حيث تروح. |