- إلياس المغتربنائب مؤسس الموقع
- رقم العضوية : 2
الدولة :
عدد المساهمات : 7389
نقاط : 432739
السٌّمعَة : 28
تاريخ التسجيل : 22/12/2012
الهوية وسؤال الوعي بالآخر
ديكومب
لا تزال مسألة الهوية مشغلا هاما في مجالات السياسة والتاريخ الاجتماعي والبحث الفلسفي وحتى اللغوي، وقد خاض فيها الكثيرون منذ قرون واختلفوا بشأنها طويلا، سواء من حيث مفهومها، أو من حيث صيرورتها، دون أن يقر حولها قرارهم. في هذه الورقة عرض لكتاب جديد صدر عن دار غاليمار يحمل عنوان "حيرة الهوية" للفرنسي فانسان ديكومب، المتخصص في فلسفة اللغة. الكتاب كما يدل عليه عنوانه تأكيد للحيرة التي تنتاب الباحث عن معنى محدد للهوية، فهو مفهوم يسوده في الغالب لبس أو تعميم فضفاض أو مخلّ، حيث يصعب أن نجد صلة بين مبدأ الهوية التي عرفها المنطق الكلاسيكي "ما يكون به الشيء هُوَ هُوَ، أي أ = أ" وبين الهوية القومية، والسعي المضني للفيف من الكتاب والأدباء والفنانين بحثا عن هويتهم. هذا فضلا عن العلاقات الملتبسة بين أوراق الهوية وأزمات الهوية والقرى المحافظة على هويتها، وما إلى ذلك من استعمالات تزيد المفهوم غموضا. إذا كان من السهل على كل شخص، في رأي الباحث، أن يصرح بهويته إجابة عن السؤال: "من أنت ؟" بذكر تفاصيلَ مما يحويه سجل حالته المدنية من اسم ولقب ونسب وتاريخ ميلاد وما إلى ذلك، فإن الأمر يتعقد إذا ما واجه نفسه بالسؤال: "من أنا ؟" أو "من أكون ؟"، فالمقصود هنا لم يعد حالته المدنية، بل هويته كفرد داخل مجموعة، ويزداد الأمر تعقيدا عندما يُطرح ما إذا كانت تلك الهوية المقصودة هوية ذاتية – وهي في الفلسفة مرتبطة بسريرة الفرد ووعيه بذاته – أم هي هوية جماعية ذات طابع عرقي أو ديني أو أخلاقي أو لغوي يحمل المرء خصائصها ويشترك في مقوماتها. ولا يتضح المراد بالهوية حتى في هذه الحالة، يقول الباحث: بل يزيدها تشويشا، إذ يمكن أن يكون ذلك الشخص مثلا ذكرا وفرنسيا ونورمنديا ومدرّسا ولاغنوصيا "معتنق مذهب اللاغنوصية أو اللاأدرية القائل بإنكار قيمة العقل وقدرته على المعرفة" وهاوي جمع الطوابع البريدية في الآن نفسه. من خلال دراسته للمنطوق اليومي، يرصد الباحث استعمالات "الهوية"، ويفصل بين الهَوَويّ identitaire الذي يحمل بعدا قيميّا، حيث يجري الحديث عن هوية مجموعة أو حارة أو قرية للدلالة عما يشكل خصوصيتها وأصالتها، ويكون في الغالب مبعث اعتزازها وبين المماثل identique . وفي هذه النقطة، يستحضر الجدل الذي خاضه الإغريق القدامى حول الهوية عبر الزمن، ومفاده أننا إذا سلمنا جدلا بأن كل شخص يتغير من لحظة إلى أخرى، فهل يصح اعتبار ذلك الشخص هو نفسه قبل يوم ؟ ويذكر بكوميديا إبيخارموس "540 – 450 ق م " التي عالجت هذه المسألة بأسلوب طريف : "لم تعد أنتَ نفس الشخص الذي أقرضني مالا، إذن أنا لستُ مدينا لك بشيء. ولو ضربتك، فلن تستطيع أن ترفع شكوى، لأنك ستصبح شخصا آخر غير الذي تلقى الضربة." وهذا يذكّرنا في السياق نفسه بجدل السفسطائيين حول سفينة تيسيوس، التي ظلت تخضع للتصليح زمنا، فتُغيَّر ألواحُها المتآكلة بألواح جديدة، إذ يتساءلون كل مرة عما إذا كانت تلك السفينة لا تزال هي نفسها. أما في ما يتعلق بالهووي فيشرح ديكومب كيف يبني الإنسان المعاصر تلك الهوية حيث يقول : "بدل أن ينظر إلى نفسه بوصفه محدَّدا بكيانه الاجتماعي، تتملكه – بالعكس – قناعة بأن ما يخصه موجود خارج المعايير والأعراف الجماعية، ولا يمكن بلوغه إلا بفك ارتباطه بالمجتمع. " وبعد استعراضه مفهوم الهوية كما يراه علماء الاجتماع – بين هوية ذاتية تشمل الوحدة والتعرف إلى المماثل والثبات ثباتا جدليا وديناميكيا يضع في الحسبان التغير باستمرار وفق ديناميكيةِ تهيئةٍ متواصلة للاختلافات والتناقضات. وهوية موضوعية أو اجتماعية تحوي كل ما يسمح بالتعرف إلى الفرد من الخارج، وتعتمد على النظم التي يشترك فيها الفرد مع مختلف عناصر المجموعة التي ينتمي إليها، وهي في العادة هوية مقررة سلفا ولا يملك الفرد إمكانية ضبط كل مواصفاتها – يقترح ديكومب مقاربة جديدة يروم من خلالها القطع مع ما يسميه "التعاليم العقدية" للذات، والاستعاضة عنها بمفهوم "عملي" و"مُعبّر" عن الذاتية، وخلاصته أن الفرد يتحرك داخل ظروف معينة ويجد هويته خارج ذاته، سواء في ما يفعله بشكل محسوس، أو في الأفعال التي تعبر عنه. أما الذات الموضوعية فهو يرى أن استعمال ضمير الجمع "نحن" يضع المتكلم داخل مجموعة ثقافية أوسع، أوجدتها عادات وتقاليد مشتركة وأكسبتها طابع المؤسسة، فهي موروثة ومورِّثة في الوقت نفسه، أي منذورة للنقل وقابلة للتطور. فالهوية الجماعية التي يرفضها البعض "راجع "الهويات القاتلة" لأمين معلوف مثلا" لكونها تحيل دائما إلى عارض مصطنع artefact مضلل، هي في نظر ديكومب تقود إلى التأكيد التالي : أيُّ "أنا" تعي ذاتها وتنبسط داخل "نحن" سابق عليها هي فعل لغوي ذو دلالة، وبذلك يغدو الأنا فردا وسط آخرين. يقول الكاتب: "الصعوبات التي سقناها سوف تنقشع إذا ما أزلنا الخلط بين واقع التغيرات المادية التي لا تتوقف، والمعنى الذي نريد أن نعطيه لمدلول "كائن بشري" الذي يفرض مبدأ ذاتيةٍ وتواصلاً في الزمن. ولكن عندما نتحدث عن الوعي الذي يحمله شخص ما عن ذاته وعن طبيعته الخاصة فإننا نقصد هوية أخرى. " |