- إلياس المغتربنائب مؤسس الموقع
- رقم العضوية : 2
الدولة :
عدد المساهمات : 7389
نقاط : 432859
السٌّمعَة : 28
تاريخ التسجيل : 22/12/2012
حمى الربيع العربي تنتقل إلى تركيا !
على مرمى حجر من مقام «الباب العالي»، الذي ظلّ سلاطينه لقرون طويلة يقودون معظم العالم الإسلامي تحت لواء دولة الخلافة العثمانية، وبالتزامن مع الاحتفال بدخول العثمانيين إلى إسطنبول قبل 560 سنة، تلقّى رئيس الوزراء التركي، الملقّب بقائد العثمانيين الجدد، رسالة من الشعب التركي تحذّره من مغبّة أن محاولاته أسلمة الحياة العامة في تركيا. هذه الرسالة وجّهت إلى أردوغان، الطامح إلى رئاسة الجمهورية التركية، نهاية الأسبوع الماضي من ساحة تقسيم الشهيرة في قلب مدينة إسطنبول، حيث اندلعت مواجهات دامية بين قوات الحكومة ومحتجّين. كشفت هذه الأحداث غضبا تركيّا شديدا من أردوغان وصل إلى حد رفع شعار «إرحل» في وجه رئيس الحكومة، ذي التوجّه الإسلامي. صيف الغضب «بداية صيف الغضب»، كما وصفها كوراي جاليسكان، مدرس العلوم السياسية بجامعة البوسفور الذي شارك في الاحتجاج، انطلقت من ساحة تقسيم التجارية الشهيرة، التي غالبا ما تُنظّم فيها الاحتجاجات والمظاهرات. كانت شرارتها الغاز المسيل للدموع الذي أطلقته شرطة مكافحة الشغب لتفريق المحتجّين الذين نصبوا الخيام منذ يوم الإثنين الماضي احتجاجا على اقتلاع 600 شجرة من حديقة «جيزي بارك» لبناء ثكنات عسكرية عثمانية في ذلك المكان وكذلك مركز ثقافي وآخر تجاري. نتيجة استعمال العنف ضد المحتجّين، اتّسعت رقعة الاحتجاجات ووصلت إلى العاصمة، أنقرة، ثم انتشرت إلى غيرها من المدن التركية الكبرى. تحوّلت الاحتجاجات إلى مظاهرات أوسع ضد سياسة حزب العدالة والتنمية الحاكم بزعامة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان. وترجم الاحتجاج الشعبي الذي انطلق من مجموعة صغيرة من ناشطي الجمعيات غضب الأتراك على حكومة تحتكر كل السلطات منذ عشر سنوات. ومن اليسار التركي إلى اليمين القومي احتشد الطيف السياسي التركي كله لاجتياح ساحة تقسيم والاحتفال على وقع صرخات «أيها الدكتاتور استقل» بهزيمة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان أمام غضب الشارع. جاءت الرسالة الضمنية التي وجهها المحتجون إلى الحكومة محذّرة أردوغان من مواصلة نهجه الاستبدادي ورفض دعم الحكومة التركية للمتمردين المسلمين السنة في سوريا والتنديد بزيادة سيطرة الحكومة على أجزاء كبيرة من وسائل الإعلام ومحاولات خنق التغطية الصحفية المستقلة وحرية التعبير. كما حذّرت من تزايد محاولات أسلمة الحياة العامة في تركيا العلمانية. وعبر الجميع عن الغضب المتراكم على سياسة الحكومة المنبثقة من التيار الإسلامي المحافظ الذي أجّجه العنف والقمع البوليسي. وقال التير توران، المحلل السياسي من جامعة بيلجي الخاصة في إسطنبول «هذه التظاهرات ليست من صنع حفنة من الناشطين أو منظمة بل هي تعبير عن حالة قلق عامة بين الناس من كافة التوجهات السياسية». من جهته قال سنان أولجان من مؤسسة كارنجي الأوروبية «إنه تحرك شعبي غير مسبوق ومفاجئ (…) ناجم عن القلق وخيبة الأمل للأوساط العلمانية في المجتمع التي لم يعد بإمكانها التأثير على الحياة العامة منذ عشر سنوات». وبالرغم من تركيز أردوغان على حزب الشعب الجمهوري المعارض فإن الاحتجاجات ضمت أناسا من أطياف مختلفة معارضين له ولم ينظمها حزب سياسي واحد. وشوهد من بين المتظاهرين ممثلون معروفون، من بينهم الفنان هاليت أرجنتش الشهير بالسلطان سليمان القانوني، بطل مسلسل «حريم السلطان». كما ألهب الاحتجاجات الآلاف من المشجعين المتشددين لأكبر ثلاثة أندية كرة قدم في إسطنبول انظموّا إلى المظاهرة في ساحة تقسيم بقيادة اليسار، وهي المرة الأولى منذ 30 عاما، التي تتحد فيها جماهير أندية كرة قدم متنافسة ضمن صوت واحد يساند الجماهير المحتجّة خلال مسيرة تقام في ساحة تقسيم. وكذلك فعل مشجعو فرق كرة القدم المتنافسة في مدن تركية أخرى. من جانبها نددت قوى اليسار وأقصى اليسار بالقمع الذي تمارسه السلطات تحت غطاء مكافحة الإرهاب. ووجّهت إصبع الاتهام إلى انحراف استبدادي لسلطة قوية بنجاحها الانتخابي. وصدمت ضراوة رد الشرطة الأتراك بالإضافة إلى السائحين الذين فوجئوا بالاضطرابات في واحدة من أكثر المناطق التي يزورها سائحون في العالم. وقوبل ذلك بانتقاد من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وجماعات حقوقية دولية. ولم يتخلف نظام دمشق، عن الأخذ بثأره من أردوغان، وندّد بسياسة رئيس الوزراء التركي الذي غالبا ما يفتخر بالنموذج الديمقراطي أمام الدول العربية، حيث قال وزير الإعلام السوري عمران الزغبي إن «أردوغان يقود بلادا بطريقة إرهابية ويدمر حضارة ومكاسب الشعب التركي». وسارعت حكومة أنقرة إلى التصدّي لمقولة «الربيع التركي» حيث جاء على لسان مستشار رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، طه كينتش، أن ما يقال عن «ربيع تركي» أمر غير واقعي. واتهم كينتش المعارضة بتحويل «الأمر من محاولة لاقتلاع شجرة إلى محاولة لاقتلاع أردوغان، وهذا أمر لا يمكن أن يتم بهذه الطريقة». و»ما يحدث في تركيا»، وفق تحليل الكاتب الصحفي المصري عبدالله السناوي، «لا يمكن تفسيره إلا في إطار لعنة الإخوان المسلمين، التي تصيب كل الدول التي تقترب من هذه الجماعة، وها هي تركيا تصاب باللعنة نفسها». ربيع تركي خلال عشر سنوات في السلطة أشرف أردوغان على نقل تركيا من دولة مأزومة اقتصاديا إلى أسرع الاقتصاديات نموا في أوروبا. وتضاعفت حصة الفرد من الدخل القومي ثلاث مرات منذ وصول حزبه إلى الحكم. وما زال أردوغان من السياسيين الأتراك شعبية ويعتبر على نطاق واسع أقوى السياسيين الأتراك بعد مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس الجمهورية التركية الحديثة على أنقاض الإمبراطورية العثمانية قبل 90 عاما. ولأنه مجبر بموجب قوانين حزب العدالة والتنمية على التخلي عن رئاسة الحكومة في 2015 فإن أردوغان لم يعد يخفي نيته الترشح العام المقبل لمنصب رئيس الجمهورية الذي سينتخب للمرة الأولى في اقتراع عام. وبدأ خصومه في التندر بـ»السلطان الجديد» ومشاريعه الفرعونية التي أطلقها خلال الأشهر الأخيرة في إسطنبول مثل الجسر الثالث على البوسفور ومطار المدينة المستقبلي العملاق. ومع تصاعد الموقف في تركيا، أصبح البعض يتحدّث عن «ربيع تركي» على غرار «الربيع العربي». وشبّه خبراء وباحثون الأحداث التي تشهدها إسطنبول وبعض المدن التركية حاليا، ببداية موجة الاحتجاجات التي ضربت بلادا عربية مثل مصر وتونس وليبيا فيما تمت تسميته «الربيع العربي»، لكنهم نفوا أن يؤدي ذلك بالضرورة إلى رحيل النظام التركي الحالي واستقالة رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان. خلافا لما جرى في بلدان «الربيع العربي»، فإن الصدام الدائر في تركيا اليوم هو صراع ضد رئيس منتخب بطريقة ديمقراطية وفاز في ثلاثة انتخابات بأغلبية محترمة لا مجال لتشكيك فيها. أيضا لا أحد من الأتراك ينكر أن رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان قاد تركيا بنجاح حيث استعادت مكانتها كقوة إقليمية ذات طموحات عالمية. الخطوط الحمر صعد نجم حزب التنمية والعدالة، الحاكم في تركيا منذ سنة 2002، حيث شهدت البلاد حينها تغيرا جذريا في المشهد السياسي، وذلك لأن الأحزاب السياسية التي كانت تمثّل الحكومة فقدت معظم شعبيتها. وقد استفاد حزب التنمية والعدالة من هذا الوضع وحصل على أغلبية برلمانية، لم يسبق لها مثيل في تاريخ تركيا الحديث، إذ فاز بـ67 بالمئة من أصوات الناخبين. ومنذ ذلك الحين يعتمل في قلب السياسة التركية صراع بين محاولات حزب العدالة والتنمية توسيع رقعة الحدود المرسومة له من قبل نخب الدولة وبين المقاومة البيروقراطية العسكرية والمدنية ضد طموحات هذا الحزب. وقد خسرت هذه البيروقراطية العلمانية المعركة في انتخابات 2007 لصالح الإسلاميين. إلا أن إلقاء نظرة على المشهد السياسي التركي يظهر أن الدولة وميولها العلمانية لاتزال العامل الرئيسي في تحديد دور الجمهور وفي استخدام الإسلام السياسي، فكلما حاول حزب العدالة والتنمية تجاوز الحدود، كإطلاق حرية ارتداء الحجاب، وتقييد الحريات العامة،…، مورست عليه الوصاية العلمانية وأعيد إلى العمل وفق الخطوط الحمر. لا لأسلمة تركيا وقد أفسحت الأحداث الأخيرة المجال أمام العلمانيين وممثلي التيار المدني، وعلى رأسهم قيادات للحزب الجمهوري، لتوجيه هتافات المتظاهرين ضد محاولات أسلمة المجتمع التركي من قبل الحزب الحاكم. وأشار العلمانيون خلال احتجاجاتهم إلى القيود التي فرضتها الحكومة الشهر الماضي على بيع واستهلاك المشروبات الكحولية، وكذلك على تغيير اسم جسر في إسطنبول ليحمل اسم السلطان سليمان القانوني، السلطان العثماني المتهم بارتكاب مذبحة «العلويين» في أوائل القرن السادس عشر. لذلك لا يستبعد مراقبون أن يقوم أردوغان، الطامح إلى أن يكون أبا الأتراك الجديد، بتقديم التنازلات تجنّبا لمصير زعماء الدول العربية الذين أطاحت بهم رياح «الربيع العربي». وقراءة في أبرز النجاحات والإخفاقات في المسيرة السياسية للحركة الإسلامية في تركيا تبرز مدى تأثير الوضع الداخلي على الإسلاميين، إلى حد أنهم اضطروا إلى التخلي عن الصفة الإسلامية لصالح تبني هوية سياسية محافظة، وإرجاع سقف المطالبات الإسلامية إلى مجرد إجراء تغييرات على النظام العلماني عوض محاولة تغييره جذريا، بشكل تتفادى معه الصراع مع العقيدة العلمانية المتحكمة في دواليب الدولة التركية منذ عهد أتاتورك. |