- إلياس المغتربنائب مؤسس الموقع
- رقم العضوية : 2
الدولة :
عدد المساهمات : 7389
نقاط : 432739
السٌّمعَة : 28
تاريخ التسجيل : 22/12/2012
جذور الرواية العربية وآفاقها
المسعدي
إذا كانت الرواية الغربية قد ولدت من "ضحك اللّه" بحسب تعبير الروائي الكبير ميلان كونديرا، فإنّ الرواية العربيّة قد ولدت من رحم الرواية الغربية. بل يجوز لنا القول إنه لولاها، لما عرفت الرواية العربيّة التي ولدت في العقود الأولى من القرن العشرين التّطوّر الكبير الذي شهدته وتشهده راهنا على مستوى الأشكال والمضامين. في مطلع القرن العشرين، كانت حركة "النّهضة" التي برزت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر قد بدأت تعطي ثمارها على المستوى الأدبي. وما عدا بعض النخب الصاعدة والجديدة، كانت الشعوب تعيش حالة غيبوبة. وكان وعيها بحاضرها ومستقبلها محدودا للغاية، إن لم يكن منعدما أصلا. أما الماضي فكان مثل خيمة سوداء منتصبة في الصّحراء بها تلوذ هذه الشعوب للاحتماء بها من رمضاء واقعها المرير. غير أن الماضي الذي كانت تتبجّح به هذه الشعوب، وبه تتغنّى وتزهو بينما القوى الاستعماريّة تحتلّ أراضيها وتهدر كرامتها، لم يكن واضح المعالم بالنسبة إليها وهي في مثل هذه الحالة من الرّكود والغياب، وانعدام الوسائل المعرفيّة المتطوّرة، أن تميّز عناصر القوّة والضّعف فيه. وكانت النخب المستنيرة ،المتأثرة بالحضارة الغربية معزولة عن شعوبها، وشبه مقطوعة عنها .لذا لم يكن من السّهل عليها استنهاضها وتنويرها وفتح عيونها على قضايا الحاضر والمستقبل. كما لم يكن من السّهل عليها أيضا إزاحة الغبار المتراكم على التّراث الأدبي الفكري على مدى قرون طويلة. لهذا السبب كانت جلّ الآثار العظيمة التي أبدعها كبار الشعراء والمفكرين العرب في مختلف الحقب شبه غائبة عن الأذهان وعن الذاكرة. وكانت اللّغة العربية على أسوأ حال. فهي لغة محاكاة وانتحال، وليست لغة إبداع وابتكار. لغة محنّطة وفقهية لا تعكس الواقع لا تكاد تعبأ به أصلا. لغة الجمود والانحطاط والموت والحنين إلى ماض ولّى وانتهى. غير أن الوضع الثقافي والأدبي بدأ في التحسن شيئا فشيئا بعد أن عادت النّخب العربية التي تكوّنت في الجامعات الغربيّة إلى أوطانها وقد تسلّحت بوسائل المعارف الحديثة، وتزوّدت باطلاع لا بأس به على مختلف التيّارات الأدبية والفنية والفكرية التي كانت سائدة في الغرب آنذاك. وظنّي أن شغف النّخب العربيّة بفنّ القصّ والرواية جاء نتيجة تعرّف تلك النّخب على الآثار القصصيّة والروائيّة الغربيّة. وكانت النتيجة ظهور قصّاصين وروائيين من أمثال محمود تيمور وطه حسين وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويحي حقّي في مصرومخائيل نعيمة وتوفيق يوسف عوّاد في لبنان وجماعة "تحت السّور" ومحمود المسعدي في تونس. وجميع هؤلاء الذين ذكروا حاولوا أن يبتكروا أعمالا انطلاقا من تأثيرات ما قرؤوه من قصص وروايات غربيّة. فمحمود تيمور مثلا سعى أن يكون شبيها بالفرنسي "غي دو موبسان". وتحت تأثير "روسو" ألّف طه حسين "الأيام" عائدا إلى سنوات طفولته وشبابه. ومفتونا بالروائيّين الفرنسييّن الكبار، كتب توفيق الحكيم رائعتيه"يوميّات نائب في الأرياف"، و"عودة الرّوح". وبعد أن جرّب كتابة الروايات التاريخيّة تحت تأثير "رايدرهاغارد" صاحب رواية "هي وعائشة" والبريطاني "هوك كين" الذي اشتهر بالكتابة عن التّاريخ الفرعوني، اهتدى نجيب محفوظ الذي سيكون أوّل عربيّ يفوز بجائزة نوبل، إلى حواري القاهرة ليحوّلها إلى مسرح للعديد من أعماله الروائية التي ستحقّق له في ما بعد شهرة عالميّة واسعة.ولم يتمّ له ذلك إلاّ بعد أن قرأ أعمال البريطاني "شارل ديكنز" والفرنسي "بالزاك" والروسي "دوستويفسكي"، وغيرهم من مشاهير كتّاب الغرب . ويقول نجيب محفوظ:"عندما بدأت قراءاتي تتّسع، وتتعمّق في الأدب الحديث، قلّ حماسي للكتابة التّاريخيّة، بل مات الإحساس في داخلي بعد أن أدركت أن المسألة أخطر وأعمق، وأن الرواية يمكن أن يكون لها دور مؤثّر في معالجة قضايا المجتمع، والتعبير عن هموم النّاس، ومشاكلهم. ومن هنا اتّجهت إلى الرواية الواقعيّة". أمّا محمود المسعدي فقد أعاد الاعتبار إلى فنّ القصّ العربي القديم بعد أن اكتشف تأثّر كبار الكتّاب الغربيّين به. ومع تنامي حركة التّرجمة، بدأ فن القصّ والرواية يزداد تطوّرا على مستوى الأشكال والمضامين، وأخذت اللغة العربيّة تنسلخ شيئا فشيئا عن البلاغة الرّكيكة، وعن المحسّنات اللفظيّة الموروثة عن عصور الانحطاط والتخلف، لتصبح لغة حيّة، متوثّبة، قادرة على التقاط نبضات الواقع في تدفّقه اليوميّ. وخلال الخمسينات والستينات من القرن الماضي حققّ الفنّ القصصيّ والروائي قفزة هائلة في مختلف البلدان العربيّة. والسبب في ذلك يعود إلى أن القصّاصين والروائيّين العرب ازدادوا معرفة بالأساليب وبالتّقنيات الحديثة في الغرب. وقد تمّ لهم ذلك بعد اطّلاعهم على أعمال كتّاب من أمثال "إرنست همنغواي" و"ويليام فوكنر" و"جون شتاينبيك" و"فرجينا وولف" و"جيمس جويس" و"ألبير كامو" و"هنري ميللر" وغيرهم. حتى نجيب محفوظ الذي ظنّ أنه حقّق مبتغاه بعد أن انتهى من كتابة "الثلاثيّة" التي خلّد فيها حواري القاهرة لم يسلم من تأثيرات الأساليب التقنية الحديثة. وهذا ما تعكسه الأعمال التي كتبها في الستينات من القرن الماضي مثل "اللصّ والكلاب" و"خمارة القطّ الأسود" و"ثرثرة فوق النّيل" وغيرها من الأعمال. ولا أبالغ حين أقول إن التّرجمة الرائعة التي أنجزها الرّاحل جبرا إبراهيم جبرا لرواية فوكنر الشهيرة "الصّخب والعنف" أحدثت "ثورة" حقيقيّة في مجال الرواية العربيّة. نلمس ذلك في آثار جبرا نفسه، وأيضا في آثار غسّان كنفاني وغادة السّمان وآخرين. أمّا الرّاحل الآخر الطّيّب صالح فقد برع في استخدام التّقنيّات الحديثة في رائعته "موسم الهجرة إلى الشمال"، وفي جلّ ما كتب. وكان لـ"جان جينيه" و"هنري ميللر" و"جاك كيرواك" تأثير على روائيّين وقصّاصين مغاربة من أمثال محمد شكري ومحمد زفزاف. وعلى مستوى المضامين، أصبح تأثير الرواية الغربيّة على الرواية العربيّة ملموسا أيضا. فبفضل هذا التّأثير أظهر الروائيون العرب مزيدا من الجرأة في تناول المواضيع المحرّمة والممنوعة، والمسكوت عنها، خصوصا تلك المتعلّقة بالدين وبالسياسة والأخلاق والجنس. وبذلك أصبحت الرواية العربية الفنّ الأقرب إلى الواقع في تجلّياته السياسية والاجتماعية والنفسية وغيرها. وثمة شيء آخر لا بدّ من الإشارة له وهو أن القصّاصين والروائيين الغربيين هم أوّل من لفت نظر العرب إلى القيمة العظيمة لتراثهم السردي متمثلا بالخصوص في "ألف ليلة وليلة"، وفي آثار الجاحظ والتوحيدي والرحّالة القدماء مثل إبن بطّوطة. وقبل ذلك كان العرب يعتقدون أن تراثهم الشعري هو "ديوانهم" وبالتالي هو أهمّ بكثير من تراثهم القصصيّ. لذا لم يبذلوا الجهود الكافية لاكتشاف مميّزات هذا التّراث والاستفادة منه. وكان عليهم أن يقرؤوا أعمال كتاب من أميركا اللاتينيّة من أمثال "غابريال غارسيا ماركيز" و"خورخي لويس بورخيس" و"كارلوس فيونتاس" وغيرهم لكي يستفيقوا من غفوتهم، ويتبيّنوا أن تراثهم السّردي لا يقلّ قيمة عن تراثهم الشعري، بل قد يتفوّق عليه أحيانا. وقد نجح بعض الكتّاب في إبداع أعمال تستمدّ قوّتها من التّراث القديم. وهذا ما فعله إميل حبيبي في عمله المتميّز"الوقائع الغريبة في حياة سعيد أبي النّحس المتشائل" وجمال الغيطاني في "الزّيني بركات". والآن وقد بدأ العرب يقرؤون الأعمال الروائية الواردة عليهم من أوروبا الشرقية ومن الهند ومن الصين ومن اليابان ومن أفريقيا السّوداء، لذا يجدر بنا أن نتبيّن تأثيرات مثل هذه الأعمال في ما سيكتبونه مستقبلا. |